جرت نسخة «مدارات» لعام ٢٠٢٢ في البرازيل، ما بين ٣١ تشرين الأوّل/أكتوبر و١٠ تشرين الثّاني/نوفمبر ٢٠٢٢، ونُظِّمت بهدف التعريف ببعض النشاط الفنّي في مدينتي ريو دي جانيرو وساو پاولو. وسافرت المشاركات والمشاركون أحمد الأقرع (فلسطين) وسميّة عيط أحمد (المغرب) وفرح آكسوي (تركيّا/العراق) وكريم المصيلحي (مصر) معًا للالتقاء بالفنانات والفنانين والعاملات والعاملين في التقييم الفنّي وكذلك لزيارة المؤسسات الفنّيّة والمبادرات الثقافيّة في المدينتين. ركّزت رحلة البحث على أسئلة تخصّ مسألة الحقّ في الأرض وعلاقة الفنّ بالاستطباق وأساليب الاستحواذ على المساحات. نظّمت البرنامج وصمّمته منسّقة البرامج كريستال خوري مع الفنّان البرازيلي فيليپي ستاينبيرغ، وأرشدا المجموعة في أثناء الرحلة.
وشملت الرحلة زيارات إلى «متحف الفنّ في ريو» و«متحف الفنّ الحديث» في ريو دي جانيرو ومركز «بيلا ماريه» و«المدرسة المجّانيّة للفنون البصريّة» في «منتزه لاج» و«پيڤو» و«كازا دو پوڤو» ومبنى «الخدمة الاجتماعية للتجارة» في پومپيا و«الخدمة الاجتماعية للتجارة» في بيلينزينيو و«مسرح الورشة» مع الفنّانين رودريغو أندريولي وپيدرو فيليزيس و«متحف الثقافات الأصلانيّة». كما تضمّنت الرحلة زيارات إلى «كيلومبو دو كافوندا» و«كاييس دو ڤالونغو» و«پيدرا دو سال» و«ڤيلا إيتورورو كانتيرو أبيرتو» و«أوكوپاساو ٩ جوليو»، وهو جزء من «الحركة البدون سقف في المركز» التي تقودها كارمين سيلڤا. وزرنَ كذلك استوديوهات للفنانات والفنانين ألين موتا وأميلكار پاكر وأوجينيو ليما وغرازييلا كونش وريكاردو باسباوم وتيلما ڤيلاس بُواس؛ كما تلاقين مع قيّمات وقيّمي الفنّ أماندا بونان وآنا رومان وبينجامين سيروسي وبيانكا بيرناردو وهيلموت باتيستا وجان كارلوس أزووس وكينيا إلايسون وساندرا بينيتيز.
وفي تأمّلهمنّ في رحلة تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، كتبت المشاركات والمشاركون «نصًّا غير مكتمل»، يمكن قراءته أدناه، يطرحن فيه أسئلة تخصّ إعادة تخيّل ممارساتهمنّ ضمن حوار وتعاون جنوب-جنوب والاستحواذ الشعبي على المساحات والعمل المجتمعي النقدي، بجميع تناقضاته وتحدّياته. ويتساءلن فيه عن دورهمنّ في عملهمنّ في التقييم الفني والبحث وكيف يمكن لزياراتهمنّ إلى كثير من هذه المساحات مساعدتهمنّ في تشذيب عملهمنّ ونقدهمنّ، كلًّا في مدينتها-ـه ومجتمعها-ـه المحلّي الخاصّ.
اختيرت المشاركتان والمشاركين الأربع من ضمن مجموعة ممتازة تألّفت من أكثر من ٨٠ طلب:
أحمد قیّم فنّ وفنّان ومھندس معماري یبحث في كیفیة استخدام المزاولات الفنیّة لفكّ البنیة التحتیة الثقافیّة لمشروع بناء الدولة. أحمد حالیًّا قیّم فنّ ضيف في «المتحف الفلسطیني»، وهو أحد مؤسسي «تجمّع فناء» في رام الله.
فرح قیّمة ومؤرّخة فنّ مقیمة في إسطنبول. عملت بین كانون الأ ّول/دیسمبر ٢٠١٧ وحتّى أیلول/سبتمبر ٢٠٢٢ على مشاریع طویلة الأمد بصفتھا مبرمجة في «SALT»، وھي مؤسسة ثقافیة غیر ربحیّة موجودة في اسطنبول. تشمل اھتماماتھا البحثیّة الحداثة والأفان غارد المقارَن ودراسات ما بعد الاستعمار والعولَمة والسیاسات الثقافیة في الشرق الأوسط وتركیّا.
كریم عامل في الثقافة وباحث. عمل مع «غالیري تاونھاوس» في القاھرة ومؤسسة «غوتيه» في الاسكندریّة، ویعمل حالیًا على مشروع أرشفة یخصّ «منظّمة تضامن الشعوب الأفریقیة الآسیویّة». تشمل اھتمامته الموضة والسینما والطعام وثقافة الپوپ.
سمیّة قیّمة فنّ وعاملة في الثقافة من المغرب. وھي كذلك عضوة في «18 LE»، ھي مساحة فنیة متقاطعة التخصصات في مراكش، حیث شاركت في تأسیس «AWAL»، وھو برنامج فن وبحث مُكرَّس لأشكال الفنّ الشفوي الموروثة والمعاصرة في جبال الأطلس المغربیّة وفي جنوب شرق المغرب. تعمل حالیًا على مشروع فنّي وبحثي متقاطع المجالات بعنوان «ضدّ الزراعة الأحادیّة وضدّ الثقافة الأحادیّة» عن المزارعات والمزارعین والتغیّر المناخي وصناعة التفّاح في جبال الأطلس الكبیر.
أقيمت نسخة «مدارات» لعام ٢٠٢٢ بدعم من «مؤسسة آندي وارھول للفنون البصریة» ومؤسسة «تیغر».
«نصّ غير مكتمل»
[مترجَم عن الأصل بالإنكليزيّة]
٢٠٢٢/١١/٧ ٢٠٢٢/١٢/٢٠
كريم وسميّة وأحمد وفرح مصر، المغرب، فلسطين، تركيّا
ساو پاولو، البرازيل عبر الإنترنت
لقد كانت حقًّا تجربة فريدة من نوعها التلاقي بمختلف المنظّمات الثقافيّة والفنانات والفنانين والمهنيات والمهنيين في ريو دي جانيرو وساو پاولو ضمن بحثنا في قضايا الحق في الأرض وعلاقة الفنّ بالاستطباق وطرق الاستحواذ على المساحات. في ما لا يزيد عن ١٠ أيّام، تعلّمنا نحن، أربع عاملات وعاملين في الفنّ، وافدات ووافدين من مناطق مليئة بمختلف النزاعات والأسئلة غير المحلولة، دروسًا سريعة عن تاريخ البرازيل وثقافتها، هي دروس تفتّحت تقريبًا بحاضر البرازيل الحاليّ، بحيث تزامن وصولنا مع الانتخابات الرئاسيّة هناك. نحن كنّا، وما زلنا، كما يمكن القراءة أدناه، نصيغ تجاربنا ونفصّلها. لكنا أجمعنا بصورة مبدئيّة على أنه لن يكون من المنصف تطوير خطاب عن انطباعاتنا عن هذه الرحلة، ربّما لأننا اعتدنا على صياغة “الآخرين” لخطابات عنّا “نحن. لذلك فلا استنتاج للنقاط الشخصية المرفقة أدناه، لكنها تشكّل خطوات أوّليّة لتساؤلات مستقبليّة ملموسة تسعى إلى توجّهات جديدة عن التضامن والتعاون والعمل بين أطراف الجنوب العالمي.
كريم: كشخص أتى من مصر، بواقعها الراهن من الاستطباق المستمرّ، سواء كان ذلك من الدولة أو من القطاع الخاصّ، دائمًا ما أحاول أن أفهم وأتعلّم عن طرق تعامل المدن الأخرى مع هذا النوع من التغيير. كان وجودي في البرازيل تجربة تعلّم كبيرة. وصلنا أوّلًا إلى ريو دي جانيرو ومن بعدها إلى ساو پاولو، حيث تمكّنت من مشاهدة مجتمع شديد التركيب، وكثير الاختلاف عن المنطقة العربيّة ولكن يتشابه معها في كثيرٍ من الجوانب. إلى جانب ذلك، سنحت لي فرصة زيارة مواقع استحواذ ومتاحف ومختلف المؤسسات الثقافيّة التي تتمتّع جميعها بوقع اجتماعي في المساحات التي تقبع فيها. وقد جعلني كل ذلك أتساءل بخصوص إمكانيّة التنمية الإيجابيّة عبر مختلف التوجهات والأشكال.
وتعلّمت في البرازيل عن مسألة الإسكان الحكومي في أثناء زيارة «كوزينيا أوكوپاساو ٩ دي جوليو» (أي «مطبخ احتلال ٩ تموز/يوليو»). «كوزينيا» مبنى احتلّته «موڤيمينتو سيم تيتو دو سينترو» (أي «حركة البدون سقف في المركز»)، وهي حركة إسكان وإصلاح اجتماعي. وفيما أخذت المساحة وقتًا طويلًا لاحتلالها، فقد أصبحت تعمل الآن بصفتها مساحة للعائلات منخفضة الدخل التي صار لديها الآن -بفضل الحركة- مدخلًا للتعليم والثقافة وفي بعض الحالات حتّى إلى أوراق الإقامة القانونية والجنسيّة. يقع المبنى في مركز المدينة في حيّ مركزي للغاية، ويبدو من الخارج كأنّه مساحة مهجورة. لكن في لحظة دخولك إليها تتحوّل المساحة هذه إلى مكان مليء بالحياة. فيها جنينة جميلة وبار صغير وباعة تقدّم كلّ أنواع الحلويّات والمخبوزات للبيع وصالون حلاقة خارجي ومطعم مجتمعي يديره مجتمع سكاّن «الاحتلال» أو «الاستحواذ» للمساعدة في تمويل أنفسهمنّ والمساحة. أعتقد أنّ هذا هو نوع التنمية الذي سأرغب برؤية مزيدٍ منه في الأحياء المكتظة التي تحتوي على عدد هائل من المباني المهجورة في مدن كبيرة مثل مدن مصر، كالقاهرة والاسكندريّة. لكنني أتساءل كيف يمكننا إدارة والانخراط في حركات كهذه هناك. حاولت إسقاط السرديّة هذه على الوضع الحالي في مصر، وبدا في الأمر تحدٍّ كبير، وكان من الصعب عليّ العثور على إجابات واضحة أو التوصّل إلى استنتاجات ملموسة. بعد زيارة قصيرة للمكان، لا يمكنني القول إنني أفهم كلّيًّا كيف مازالت «كوزينيا» قادرة على العمل والاستمرار ضمن بيئة البرازيل الراهنة.
وكان «كازا دو پوڤو» (أي «بيت الناس») مثالًا آخر عن إعادة توظيف مبانٍ قديمة للتأثير الاجتماعي. أسّست المساحة هذه جمعيّة ثقافية غير ربحيّة عام ١٩٤٦، بعد وقت قليل من الحرب العالميّة الثانية. وقد بُنيت بمساعدة مساعي جماعيّة من جزء من المجتمع اليهودي اليساري كان وفدَ من أوروبا الشرقيّة، بصفته رمزًا لمقاومة النازيّين. حوّلت المساحة نفسها ليس إلى مركز مجتمعيّ يهوديّ فحسب إنّما كذلك إلى مساحة لاحتواء أيّ مبادرة صغيرة ومستقبليّة وكذلك لاحتواء تجمّعات الفنانات والفنانين والمصالح التجاريّة الصغيرة وحتّى لتدريب المجموعات الرياضيّة. يمكن لأيّ من هذه المجموعات استخدام المساحة هذه والمشاركة فيها. فيما تحافظ المساحة على موروثها بصفته رمزًا للمقاومة، تستخدمها الآن عدّة جهات فاعلة في المجتمع. وتستمرّ المساحة في حفظ أرشيفها -الذي يحوي ٤٠٠٠ كتاب ومئات الصّور والأغراض والوثائق التي تخبر بعضًا من التاريخ الثقافي للمقاومة والثقافة اليِديشيّة. ومرّة أخرى، بالتأمّل في مساحات شبيهة في مصر في حالتها الراهنة، تساءلت عن كيفيّة تمكّننا من تكرار التجربة هذه، وذلك مع الإشارة إلى أنّ معظم الأراشيف في المدن مُدارة حكوميًّا وأنّ معظم المساحات التي تملكها الأقلّيّات مغلقة أمام عموم الجمهور لأسباب أمنيّة. ويتشارك حوار الجنوب-جنوب كثيرًا من جوانب الشبه لكنّه مازال يخصّ كلّ موقعٍ بموقعه إلى حدٍّ بعيد. وعلى العموم، ألهمت زيارة الأماكن هذه أملًا في تطوّر أماكن شبيهة في مصر يومًا ما.
أهتمّ حاليًّا بماضي مدينة الاسكندريّة وحاضرها ومستقبلها في ما يتعلّق بالممارسات الفنّيّة واستخدام المساحات وسيرورة التنمية والاستطباق فيها. ويعارض كثيرٌ من المهندسات والمهندسين ومخطّطات ومخطّطي المدن والمفكّرات-ـين الاسكندرانيّات-ـين تنمية الدولة الجديدة لساحل الاسكندريّة، فيما تتّجه شركات عقاريّة كثيرة نحو الحفاظ على عدد كبير من المباني التراثيّة المبنيّة على الطراز الأوروبي في المدينة والمسكونة الآن بحوانيت قديمة وأسر من الطبقة المتوسّطة. لقد وُجدت المباني الأوروبيّة هذه بسبب الاستعمار؛ ويمكننا دومًا المجادلة للدفاع عن الأهمّيّة التاريخيّة الكامنة في الحفاظ على هذه الهندسة المعماريّة. لكنّني أودّ استكشاف أهمّيّة الحفاظ عليها وكيف يمكننا التقدّم في مشروع الحفاظ عليها من دون الإضرار بالسكّان الحاليّين لهذه المناطق، وكيف يمكن للتنمية أو الاستطباق إفادة تحضُّر المدينة.
عندما أفكّر في المساحات البرازيليّة التي زرناها بصفتها نموذجًا للتدخّلات التي يمكن لها أن تتموضع في مصر، تحضرني عدّة أسئلة: ماذا سيكون شكل مواقع الاستحواذ في مصر؟ ولماذا هي غير ممكنة في الوقت الراهن؟ كيف يمكن لمساحات تراث الأقلّيّات في الاسكندريّة، مثل المجتمع اليوناني، أن تفتح أبوابها لأعضاء من عموم الجمهور للتفاعل مع أنواع التاريخ غير المحكي هذه؟ هذه هي الأسئلة التي أودّ استكشافها في عملي في الاسكندريّة وعنها، فأبحث عن نماذج تؤثّر فيها تنمية المساحات الحاراتيّة بصورة إيجابيّة على قاطنيها.
سميّة: ما الذي تبقّى لنا لتعلّمه من الشَّمال العالمي غير ذلك الجزء المتفتّت من تاريخنا الخاصّ؟
عندما نفكّر في أرضنا وعاداتنا وتصوّراتنا وأراشيفنا – غالبًا ما تتجلّى صورة كولونياليّة، صورة فوتوغرافيّة أو فيلم يظهر أمام أعيننا. وتطفو الصورة هذه في فراغ حيث ستتلاءم أيّ سرديّة معها. التاريخ “الموضوعي” إذًا هو التاريخ المكتوب بيد من يعرف خلق قصّة جميلة من نصرٍ جميل، أو ربّما من هزيمة مروّعة. ومن ثمّ تخضع تفسيراتنا لمختلف الحقائق الخارجيّة التي – عندما تُكتَب أو تُرسَم أو تُصوَّر أو تُلتقط عبر الفيلم – تطمح لأن تصير حقائقنا نحن. وهذا هو جزئيًّا ما يُخضع مناطقنا إلى استعمار حقيقي أو جزئي أو متحوّر ويذوّتها ضمن منظومته. فتصبح ذاكرتنا متلوّنة ومتقطّعة ومتجزّئة عبر اللغة والوقت، فتُصرَّف في الزمن المستقبل وحسب: فيكون علينا أن نقوم بالتحديث وبالتنمية وبالتمدين.
تنتشر الأجزاء هذه من الذاكرة المحطّمة في مختلف السياقات والأقاليم. تطفو صورة من البرازيل ضمن فراغ حيث يجلبها صوت فرنسي إلى المغرب، وتُترجم كلمة بالبرتغاليّة إلى الإنكليزيّة. أسمعها بالفرنسيّة وأقرأها بالإنكليزيّة وأفكّر فيها بالمغربيّة الدارجة. لديّ تصوّر ما عن البرازيل. كان لديّ تصوّر ما عن البرازيل – فلطالما كانت البرازيل حاضرة في بحثي بصفتها مجموعة من المراجع والإلهامات. لكن بغضّ النظر عن تقارُب تجاربنا المشتركة وتشابُه ذاكرتنا – لا يزال فلترًا شماليًّا يتدخّل ليبقي البعد في ما بيننا وليحافظ على وساطته المهيمنة. لقد واجهت الحقيقة هذه عندما زرت مؤخّرًا البرازيل للمرّة الأولى. وتستمرّ الوساطة المهيمنة هذه بالوجود على الرغم من الحوار القوي القائم بين النسيج الثقافي البرازيلي وتاريخ وثقافة شمال أفريقيا: شعب أصلاني يطالب بحقّه في الوجود في أرضه، هي تراوما كولونياليّة برتغاليّة مشتركة، أو نزعة تاريخيّة مشتركة للهروب من السلطة – كيلومبو دوس پالميريس هي مثل بلاد السيبة عندنا. لا شكّ لديّ اليوم، بصفتي أمازيغيّة، أنّ التعلّم المتبادل من السياقات الأخرى قادر على حلّ المشاكل التي يواجهها السكّان الأصلانيّين في شمال أفريقيا. لكنّ اللغة والتجزّؤ يتدخّلان مرّة أخرى عندما أقف وجهًا لوجه أمام القيّمة الفنّيّة الأصلانيّة الأولى في البرازيل – فلم تكن تحكي الإنكليزيّة. ومع بعض الاستثناءات النادرة، فلم يتكلّم الإنكليزيّة إلّا المهاجرين-ـات البيض (“المغتربين”) أو القيّمين-ـات الفنّيّين-ـات البرازيليّين-ـات البيض. ويبدأ صوتهمنّ بالطغيان على سرديّة رحلتي، أو على رحلة ساندرا بينيتيز من «متحف الثقافات الأصلانيّة». وقد أحبطني هذا.
لكن ومع كلّ التعليق الصوتي المحتوم هذا وبفضل ماضينا المشترك فإنّ واقعينا لا يزالان يسكنان في إدراك سرديّات كلّ المجتمعات التي عايشت شروخًا مشابهة. ولهذا من المهم محاولة شفاء أنفسنا عبر تطوير توجهات جنوب-جنوب عابرة للأجيال. تسيّرنا ذاكرتنا المجزّأة لنعتقد أنّنا أحيانًا نكون أوّل من يتناول السؤال هذا أو ذاك فيما في الواقع ثمّة من سبقننا وسبقونا في تحضير الأسس لهذه التوجّهات، لكنّهمنّ منسيّات-ـين في غالب الأحيان أو قد غادرننا-ـونا مؤخرًا. مثلًا، في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، كانت نوادي السينما في شمال أفريقيا متحمسة لعرض السينما البرازيليّة الجديدة («سينما نوڤو»). وبُرمجت عروض لأفلام غلاوبر روتشا في جميع أنحاء الجزائر والمغرب، مثيرةً النقاشات والبحث، ما أدّى كذلك إلى تطوير لغة سينماتوغرافيّة خاصّة بالسياق الشمال أفريقي الثقافي. فنرى أوجه شبه مدهشة بين فيم «ميراج» لأحمد بو عناني (١٩٧٩) و«إله أسود، شيطان أبيض» لروتشا (١٩٦٦).
بالإضافة إلى ذلك، وحتّى يومنا هذا، فقد تركت أعمال أوغستو بوال و«مسرح المقهورين» آثارًا واضحة على المشهد المسرحي المغربي، حيث تتحاور النظريّة مع شكل المسرح المتوارث خاصتنا، «الحلقة» أو «البساط». ما بين بوال و«الحلقة»، وُلد «منتدى الحلقة» – وهو عبارة عن مدرسة مسرحيّة جديدة كليًّا – في المغرب. فيما كنت أزور مسرح «تياترو أوفيسينا»، لم أتمكّن من عدم التفكير في استمتاع فنّانات وفناني الأداء المغربيّات-ـين بهندسته المعماريّة. وفكّرت في فرقة حسني مخلص لمسرح المقهورين في الدار البيضاء وكيف خذلنا مهندسو المسرح المغربي، وكيف يمكن للهندسة التي تبنى حول الشفويّة وممارساتنا المسرحيّة الموروثة مساعدتهمنّ على الازدهار. بل حتّى فكّرت في كيف –
لكنّني سأتوقّف هنا. فهذا نصّ غير مكتمل.
لديّ الكثير لأضيفه، لكن ما من وقت لقوله. حتّى في البرازيل لم يكن هناك وقت كافٍ. لا وقت للراحة، لا وقت لاستيعاب السياق الجديد هذا كلّيًّا على إيقاعنا. إنّه حال صنّاع المنح وما يريدونه عبر أنحاء منطقتنا على العموم. يريدون لنا أن نحشو برامجنا بالفعاليّات بل ونفرط في البرمجة وننتج ونفرط في الإنتاج. وقد وقع «مدارات»، هذا البرنامج الذي أخذ أربعة أشخاص من شمال أفريقيا وجنوب غرب آسيا إلى البرازيل – ضحيّة هذه النزعة مثلما نقع ضحيّتها جميعنا. لكن ثمّة منطق لـ«مدارات» – لا بل إنّه مبادرة أساسيّة. فأين هي المبادرات الفنّيّة الأخرى التي تتيح إجراء حوارات جنوب-جنوب كهذا؟ تقبع معظم التبادلات الدولية خارج منطقة شمال أفريقيا عند أوروبا، ولذا فسأنهي بما يلي: على «مدارات» أن يتكرّر. وينبغي أن يكون القاعدة لا الاستثناء… فما الذي تبقّى علينا تعلّمه من الشمال غير –
أحمد: لطالما تساءلت عن موقعي في العالم الفني ودور الممارسات الفنية المعاصرة في تقديم السرديات النخبوية في الوطن العربي. ولطالما تساءلت عن الطرق التي تفكّك فيها الفنانات والفنانين والتجمّعات والعاملات والعاملين في الفن سرديات من هذا النوع في البنية التحتية الراسخة الراهنة في سبيل معارضة التاريخ بصفته مكتوبًا. في فلسطين يبدو أنّ النزعات الحاليّة ضمن الدوائر الفنية تستسلم لهذه السردية وأنها تطوّرت بالتوازي مع صعود البرجوازيّة الجديدة التي تنحدر من العائلات الإقطاعيّة.
ولطالما أردت تحطيم السرديّة هذه.
كنت أتطلّع إلى التعلّم من المجتمعات السوداء والأصلانيّة عن ممارستها للفنّ نحو تأسيس بنية تحتيّة مستقلّة تعمل خارج مؤسسة الدولة/النيوليبراليّة/النخبة. درست في أوروبّا وتترسخ معظم معارفي الحاليّة في الخطاب الإبستيمولوجي الأبيض عن الفنّ. هل يبرّر وجودي في فلسطين ممارساتي الفنّيّة، حتّى في حال وجود شرخ بين ما أريده وما هو متوفّر؟
نحن التناقض مع نفسنا بحدّ ذاته – لكن هل يكفي ذلك؟
أردت الكشف عن هذه التناقضات الموجودة ضمن جميع التجمّعات والفنانات-ـين والمؤسسات التي التقينا بها. عند وصولي إلى «لانتشونيتي – أوكوپاساو بار ديلاس» (أي «بار النقارش – احتلال بارهم») روّعني اكتشاف تاريخ المكان؛ وموقعه في إحدى أقدم مناطق مدينة ريو دي جانيرو، حيث كانت مدخلًا للرقّ لقُربها من الميناء. ويمكن رؤية عدّة أنقاض وإشارات تبيّن التاريخ القاسي الذي عاشه المجتمع الأسود هناك. ومازالت المنطقة مثقلة بضعف التنمية والإهمال، لكن ثمّة عدد من تجمّعات القاعدة الشعبيّة يحاول إحياءها والاعتراف بماضيها الوحشي. عند لقائنا بتيلما ڤيلاس بُواس، وهي فنانة تشغّل حاليًّا مطبخًا اجتماعيًّا في المنطقة، كان من الواضح أنّها تعيش تناقضاتها الخاصّة بها كذلك، في محاولتها للتحاور مع ماضيها “الأبيض” في هذا الجزء المكلوم من مدينتها.
وهذا ما أردتُ فهمه.
وكان «موزيو دا ماري» من أبرز أجزاء الرحلة. يبرز المتحف الجالس في وسط إحدى عشوائيات البرازيل الكثيرة (“فاڤيلاس”)، هو متحف فريدٌ من نوعه، لا مثيل له. أدهشني التوجّه التقييمي الجمعي الذي فسّره لنا أحد القيّمين الفنيّين هناك. فهمنّ يقيّمن-ـون المعارض بصورة جماعيّة، وذلك لتعطيل التوجّه المتعالي والأناني الذي نحمله معظمنا كقيّمات وقيّمين على الفنّ. كان التجوال في المتحف تجربة رائعة سردت تاريخ الحيّ العشوائي هذا بطريقة جميلة وصادقة، وذلك باستخدام مختلف الثيمات المستقاة من حياة الناس اليوميّة. وهنا تساءلت مع نفسي عن طرق عملي الخاصة في المؤسسات الفنّيّة، كما فعل البعض منّا الذي يعمل كذلك في المتاحف.
لمن ننتج الفنّ؟
تعلّمنا كثيرًا من التلاقي مع كلّ التجمّعات المختلفة هذه في البرازيل ورؤية مختلف الطرق التي تعمل عبرها في داخل المؤسسات وخارجها. رأيت فيها كيف تتبدّل مدينة مثل ساو پاولو مع حركة أحد أعضاء «تياترو أوفيسينا»، ورأيت كيف ينبض «كازا دي پوڤو» وفق إيقاع كلّ كلمة يحكيها مديرها، وكيف دخلنا طبقات مركّبة من التاريخ والنضالات الاجتماعيّة وكان ذلك مؤثّرًا ومكثّفًا ومثرٍ. وكان من الصعب عليّ، بصفتي شخصًا يعيش مختلف أشكال القمع، استيعاب وإدراك تاريخ وقصص كلّ الأشخاص الّذين التقينا بهمنّ. سنتطلّب كثيرًا من الوقت للكشف عن ذلك، وفي الواقع نعتبر الرحلة هذه بدايةً لرحلة أخرى من التأمّل الذاتي – للكشف عن حقائق أخرى والإقرار بها وقبولها كلّها بصفتها جزءًا من حقيقتي أنا. قد يكون شِعر أرضٍ أخرى هو شِعري أنا كذلك.
أعتقد أنّه لا استنتاج للرحلة هذه، فهو رحلة مستمرّة.
فرح: تجاوزت تجربتنا أيّ توقّعات نمطيّة يمكن أن تراود أيّ منّا عند السفر إلى البرازيل لأوّل مرّة. فقد قدّمت لنا ريو دي جانيرو وساو پاولو، بطبيعتيهما الخاصّة، تشكيلات اجتماعيّة غير متخيّلة لتحسين كلّ من ممارساتنا الفنّيّة الفرديّة.
بدأت الرحلة في «حديقة النباتات» في ريو، وهي حديقة نباتات أسّسها الملك جواو السادس للبرتغال في عام ١٨٠٨، والتي كانت كذلك مقرّ مصنع بارود، وانتهت بعشاء حميمي في ساو پاولو مع يوجينيو ليما من مجموعة «ليجيتيما ديفينسا»، وهو تجمّع لفنّانات وفنّاني أداء وموسيقيّات-ـين للشعر، بحيث يركّزن-ـون في عملهمنّ وبحثهمنّ على تأمّل السّواد وتمثيلاته وتطوّره الاجتماعي التاريخي. ما بدأ بصفته تمرينًا تمهيديًّا في فكفكة الروابط بين المفاهيم الرمزيّة للأرض والسيادة والعاصمة انتهى بأسئلة عن البنية الاجتماعيّة للهويّة الوطنيّة البرازيليّة، وهو مشروع طوباوي وهيمنيّ في نفس الوقت بدأ في القرن العشرين – أي التحديث و”العالم الثالث” بصفته مركّبًا.
وقد ترك اللقاء الأوّل مع تيلما ڤيلاس بواس، هي المبادِرة بمشروع «لانتشونيتيي – أوكوپاساو بار ديلاس» في ريو دي جانيرو أثره فيّ. فقد تحوّلت من ممارستنا الفنّيّة الفوتوغرافيّة إلى ممارسة اجتماعيّة عبر «لانتشونيتي»، هو مكان يستضيف الورشات والقراءات والمسرحيّات ولكنّه يدير بالأساس مطبخًا جماعيًّا في حيّ غامبوا. ويمتدّ المكان نحو الأرصفة عند ازدحامه تحديدًا، وخاصّةً بالنساء والأطفال الآتيات من المجتمع “غير المهيمن” والوافد من أوضاع معيشيّة صعبة. ويمكن اقتفاء أثر المحادثات التي خضناها ضمن الفريق عن امتيازاتنا – سواء كانت عرقيّة أم اجتماعيّة – عودةً إلى هذه الزيارة الأولى.
وعلى الرغم من أنّني كنت أتمتّع ببعض من التجربة في والإدراك للتقاطع عند العمل البحثي الذي يُمشكِل مختلف المفاهيم عبر الممارسات الفنية البصريّة، كان لـ«متحف دا ماريه» – الذي ابتكرته مجموعة شابة من السكّان كجزء من حركة الإسكان – «مركز أسويس سوليدارياس»، والذي يسعى إلى خلق تمثيل ذاتي عن الحيّ العشوائي ماري في سبيل تعزيز الصورة الإيجابيّة لهذا الحيّ الشعبي، تأثيرًا تحويليًّا. فقد ألهمتني رؤية كيف يمكن تشكيل تاريخ النضال والانعتاق من العبوديّة، فيتطوّر نحو دفاع إقليميّ، عبر المساهمات الجماهيريّة، وبدون اتّباع توجّه هرميّ في المنهجيّة المؤسسيّة. ما هي الأدوار الأخرى التي يمكن لمعرض بصري أن يلعبها؟ وكيف تجد المصادر الأرشيفيّة -بما يتجاوز كونها مصادر وصورًا فوتوغرافيّة- ردًّا في حياة ضحايا التاريخ هذا؟ في ضوء الأسئلة هذه، أدرك أنني أتعرّف لأوّل مرّة على متحف اجتماعي حقيقي.
ومن ثمّ تعرّفنا إلى «كازا دي پوڤو» في ساو پاولو، والذي يعيد استكشاف مفاهيم الثقافة والمجتمع والذاكرة، في الوقت الذي يجعل من “النّاس” -بالمعنى الحرفي- مكوّنه الأساسي. بغضّ النظر عن الانشغالات الخاصّة بالإنتاج الفعّال للبرمجة أو المحتوى، ترى الأنشطة في داخل المنظّمة في الفنّ وسيلة نقديّة في سيرورة تغيير اجتماعي مستمرّة. وكانت رؤية قدرة المكان على التكيّف استنادًا إلى احتياج كلّ مجموعة فرصة مفيدة لتناول الفجوات في تجربتي المهنية الخاصّة، بالعمل في مؤسسات غير ربحيّة معيّنة، حيث يكون كلّ شيء متحجّرًا للغاية ويخلو من التواصل الحقيقي مع الجمهور.
وأخيرًا، أنهيت الرحلة هذه ببعض الأسئلة التي تتردّد في ذهني. ما الذي سيتغيّر في حال أصبح بإمكاننا التغذّي بروابط جنوب-جنوبيّة مباشرةً، كما فعلنا في البرازيل، بدل العودة إل القاموس والمنهاج والأنظمة التي طوّرتها “الأنظمة المركزيّة” في الشمال العالمي؟ وإن حطّمنا مفاهيم معيّنة ولجأنا لكتابة سرديّاتنا الخاصّة بنا؟ معظم الممارسات الفنّيّة أو المؤسسات المحلّيّة التي كثيرًا ما نتعاون معها غير قادرة على العمل بصورة مستقلّة عن أشكال معيّنة من الدعم “الأوروبي”، فترغمنا في كثيرٍ من الأحيان على إعادة تذويت وسائل سلطته الناعمة. وبالتالي، كيف يمكن لبقايا الزيارة هذه أن تكوّن نموذجًا لمشاريعنا المستقبليّة؟ وكيف يمكن للممارسات المجتمعيّة أن تعيد تشكيل شبكاتنا في المنطقة كما في الحالات التي رأيناها في ريو دي جانيرو وساو پاولو، وبعيدًا عن تقليد البنى الموجودة، كما لو أنّنا كنّا أقمارًا اصطناعيّة في الهوامش؟
نودّ أن نخصّ كريستال خوري العزيزة من فريق «مفردات» وفيليپي ستاينبيرغ العزيز بالشكر، لمشاركتهما معرفتهما وصبرهما والدفء في أثناء الرحلة هذه، فقد جعلا منها حتّى أكثر إفادة ومتعة. وأخيرًا، نشكر «مفردات» لمنحنا الفرصة هذه في المقام الأوّل.